صناعة القرار الجهادي - للأخ شؤون استراتيجية



بسم الله العليم الحكيم

صناعة القرار الجهادي

عبدالله بن محمد
( شؤون استراتيجية )


ورد في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور دار أبي بكر كل ليلة ليتشاور مع صاحبه في مسار الدعوة ولا شك أن هذه الشورى المصغرة كانت تناسب ظروف بداية الدعوة بمكة والتي تطورت مع الوقت في دار الأرقم ابن أبي الأرقم ثم لاحقا في المدينة لتشمل وجهاء الأوس والخزرج وما يميز صناعة القرار في السياسة النبوية ليس ترسيخ مبدأ الشورى فقط بل تقديم رأي أهل الاختصاص داخل دائرة الشورى ومنه ما جاء في المغازي عندما أراد النبي التموضع بالجيش قبيل معركة بدر فقال له الحباب بن المنذر : يا رسول الله أمنزل أنزلك الله إياه أم هي الرأي والحرب والمكيدة ؟ فقال الرسول بل هي الرأي والحرب والمكيدة ثم وافقه على تغيير خطة تموضع الجيش وشواهد ذلك تنسحب أيضا على شؤون القبائل والاقتصاد والسياسة الخارجية فصناعة القرار في السياسة النبوية انتقلت من رجال الدعوة إلى رجال الدولة ولذا وضع خالد بن الوليد على الجيوش مع تأخر إسلامه ومنع أبي ذر من تولي مال اليتيم مع عظيم فضله وإحسانه كما أشار ابن تيمية وقد قال الله تعالى ( فاسألوا أهل الذكر إن كُنتُم لا تعلمون ) وهي عامة في كل مجال علمي ولعل حديث ( أنتم أعلم بأمور دنياكم ) فيه إشارة لأخذ الرأي من ذوي الاختصاص لا من ذوي الفضل .


والحقيقة أن التجربة البشرية في صناعة القرار مرت بمراحل عدة منذ الحضارة الرومانية التي كانت تعتمد على مجلس الشيوخ ( السيناتوس ) لمناقشة خطط وسياسات الامبراطورية وصولا للعصر الحديث الذي ظهر فيه ما بات يعرف ب ( مخازن الفكر ) وهي مراكز الدراسات التي تتولى عملية تقييم الأوضاع واستشراف مستقبلها والإرشاد لما يجب تجاهها وهي أهم ثلاث عمليات لصناعة القرار الإستراتيجي وهو ما يميز الدول المتقدمة عن الدول المتخلفة التي لا يخضع فيها القرار لآلية علمية وهي ايضا ما يميز الشركات الناجحة عن غيرها ونفس الشيء للأحزاب والجماعات التي تنشط في الوسط السياسي والإجتماعي فعملية صناعة القرار السياسي انتقلت من قاعات القصور ( يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون ) إلى ما يسمى ( مراكز دعم القرار ) والتي تدخل فيها وتتعاضد معها مؤسسات غير حكومية وغير ربحية كمراكز استطلاعات الرأي وكل هذا وذاك يدخل في محاولة الوصول لإدراك صحيح للواقع كخطوة رئيسية لتوضيح الطريق أمام صاحب القرار فكما أن العلاج الطبي يعتمد على تشخيص سليم لنجاحه فكذلك القرار السياسي

المتأمل في التاريخ العسكري الموثق منذ معارك جدعون المذكورة في ( سفر القضاة ) إلى يومنا هذا يرى أن العلوم العسكرية قد تطورت بشكل هائل من حيث الفكر العسكري وبنية الجيوش والآلة الحربية وعدد التخصصات وحتى على مستوى طبيعة القيادة التي انتقلت من الاعتماد المطلق على القائد الفذ أمثال الإسكندر المقدوني وهانيبعل وخالد بن الوليد ونابليون إلى مجموعة قيادية ( قيادة الأركان ) وفي أروقة هذه القيادة توجد مراكز التخطيط والتي هي نواة القرار العسكري فعاصفة الصحراء مثلا وهي أكبر عملية عسكرية في التاريخ القريب لم يضع خطتها قائدها الشهير الجنرال شوارزكوف بل وضعها أربعة ضباط من مكتب التخطيط الاستراتيجي في البنتاغون فالخطط العسكرية حديثا تصدر من المختصين ضمن آلية محددة قبل أن تقدم للساسة على شكل خيار عسكري متاح وهذا ما يميز الجيش المحترف عن الميليشيا فالاختلاف بينهما لا يرجع لنوعية التسليح فهناك ميليشيا متطورة تقنيا وإنما في آلية القرار التي تجعله يصدر بشكل علمي مرتب كالرتب العسكرية التي تنظم درجات القيادة وقد نجحت الميليشيا اليهودية كالهاجانا والآرغون في التحول إلى جيش محترف عبر ضبط آلية القرار العسكري وجعله تابع للقرار السياسي فالصهيوني موشي ديان كان قائد ميليشيا لا يأبه له لفوضوية تلك الكيانات ولكن عندما أصبح رئيساً للأركان استطاع توظيف قدراته بشكل سليم في ظل الآلية التي تتيح استثمار المجهود العسكري في دعم الموقف السياسي فأصبح اسمه يتردد في عواصم الدول الغربية والعربية، ونظام القيادة الجماعية أو قيادة الأركان كغيرها من أفكار الحرب التي سبق إليها المسلمون ثم اندثرت بالتراجع الحضاري للأمة كما هو موثق في كتب ودراسات اللواء محمود شيت خطاب عن الفكر العسكري في الإسلام وأول قيادة جماعية عرفها المسلمون هي ما ذكر في فتوح الشام عند إرسال الخليفة أبي بكر الصديق عدة جيوش على أن يكون الأمر شورى بينهم ولا يخفى أن وجود عقل عسكري كخالد بن الوليد وعقل سياسي كعمرو بن العاص كان له الأثر البالغ في إدارة الصراع الشامي أمام القوة العظمى آنذاك ( الروم ) وعلى مدى سنوات طويلة .

صناعة القرار الجهادي .. أين المشكلة ؟



مشكلة الجماعات الجهادية السلفية منذ جيل ( إخوان من طاع الله ) في أعقاب الحرب العالمية الأولى وصولا للثورات العربية وجبهة النصرة تكمن في ضعف الرؤية السياسية وذلك للخلل المستمر في عملية صناعة القرار الجهادي فعملية صناعة القرار كما شرحت سابقا لا تتم بشكل صحيح إلا بوجود عاملين الأول وجود أهل الإختصاص ( مركز دراسات ) والثاني وجود آلية تنظم إخراج القرار وتشرف على تنفيذه ( قيادة أركان ) والخلط الذي حصل في مسار معظم الجماعات الجهادية يرجع إلى أنها أنشأت على أساس شرعي ولذا ارتبط توجيهها بدور ( المشايخ ) وهذا شيء جيد ومطلوب إلا أن دور الشيخ ارتبك عندما نزل للمعترك السياسي الذي أثبتت التجارب أنه لا يفهمه ! فدور المشايخ حيوي جدا في التربية الجهادية والنوازل الفقهية إلا أنه يصبح سلبي إذا تعلق الأمر بالتوجيه الاستراتيجي لأنه فن لا يتقنه وكما أن كبار علماء العصر كالشيخين ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله لا يفتون بفتوى تتعلق معرفتها بالطب الحديث دون استشارة طبيب مختص فينبغي كذلك للجماعات الجهادية ألا تربط سياساتها بآراء شرعيين لا يفقهون الشأن السياسي كما هو حاصل الآن عند الكثيرين وقد قال ابن القيم في إعلام الموقعين ( من أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم فقد ضَل وأضل ) فكيف بمن أفتى بفن لا يعرفه !


والأمثلة على ذلك كثيرة ومرعبة ومنها ما حدث في غزة بعد سيطرة حركة حماس وظهور الجماعات السلفية فحينها أعلن الشيخ أبو الوليد المقدسي رحمه الله تأسيس جماعة التوحيد والجهاد وكنت أظن كغيري بما أنه طالب علم فأكيد ستكون قيادته ناجحة إلا أن تنظيرات أبو الوليد عن المرحلة المكية وإسقاطها على وضع غزة جعل وضع جماعته مرتبك وأدى لمواجهة مع حماس بدلا من اليهود الذي استشهد على أيديهم بالنهاية فتلك التنظيرات لم تبنى على تصور سياسي سليم وإنما على شعارات صفاء المنهج والثبات وغيرها من الجزئيات التي ما إن تظهر في زمن صراع الكليات حتى تخلط الحابل بالنابل ! والمثال الآخر هو ما حصل في نفس الفترة مع الشيخ أبو النور المقدسي رحمه الله عندما أعلن إمارة إسلامية في رفح أثناء خطبة الجمعة دون أي مقدمات أو مقومات أو أي شيء آخر سوى قوله ( إمارة تقام فيها الحدود ويقسم الفيء ) ولا أدري أي فيء كان سيقسمه والقطاع محاصر ! وكانت النتيجة مأساة دموية لا نعفي حماس من جريمة قتل الشيخ ورفاقه ولكن لا نعفي الشيخ كذلك من مسؤولية الدماء التي سفكت بسبب إعلانه المتهور للإمارة .

والقصد أن العائق الذي حال دون استثمار الجهد الجهادي الضخم في الساحة هو عدم وجود تصور سياسي صحيح يتولد عنه قرار جهادي قابل للحياة وهو عائق تسبب في حصر فاعلية المجاهدين في فترات الفوضى فقط وهذا الجمود يتكرر في تاريخ الأمة كلما اندفع الناس خلف علماء لا يحملون تصور صحيح للواقع وهو أمر أدى في حالات كثيرة لكوارث فقهية كما في فتوى تحريم دخول آلة الطباعة للدولة العثمانية فتأخر المسلمون عن حركة الترجمة ٢٠٠ عام وفتوى تحريم تعلم الانجليزية في الهند التي أثرت على تعامل المسلمين مع المستعمر الانجليزي مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن ثابت بتعلم اللغة اليهودية ليأمن مكر اليهود وفتوى تحريم الراديو في السعودية التي جعلت البعض آخر من يعلم بالأحداث العالمية .


والله أعلم

Comments

Popular posts from this blog

بين دايتون وغروزني اينفتح الشام / كتبها : على بصرة

غارة #سرمدا: هذه هي معركة إدلب المنتظرة/ على بصيرة

دروس لبنانية في الحرب السورية / على بصيرة