الحمد لله العظيم الكريم الواحد القهار، سبحانه وتعالى الرحيم الغفار، عدد ما تعاقب الليل والنهار، وعدد ذرات البحار والأنهار، لا إله إلا الله ولا معبود لنا سواه، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير نبي الجهاد والدعوة والحلم والرحمة والأخلاق والعبادة محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، إن وعد الله حق، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
فقد أنزل الله تعالى هذا القرآن العظيم تبيانا لكل شئ، هدى ورحمة لقوم يؤمنون، وموعظة للناس لعلهم يتذكرون، وبين لنا فيه أنما يتذكر أولو الألباب أي ذوو العقول، وأنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
وخلق الله تعالى آدم وجعل منه بشرا كثيرا، وشعوبا وقبائل. وجعل الإنسان جسما وروحا، وعقلا ومشاعر ونفسا وجعل له قلبا وهو بخلق الإنسان وهو به عليم خبير. لا إله إلا هو سبحانه وحده لا شريك له، جل اسمه وتبارك في علاه، بديع السماوات والأرض الحي القيوم، عالم الغيب والشهادة الواحد المتعال.
وسبق في علمه سبحانه وتعالى كل ما سيحدث ويكون إلى يوم القيامة، وعندما أنزل القرآن ليعمل به الإنسان فإنه سبحانه يعلم ما ستكون عليه يا ابن آدم من مشاعر وأحاسيس ومواقف وما تنطوي عليه نفسك، وهو أعلم منك بنفسك. فأولو الألباب هم من أسلموا أنفسهم للهدى الذي أنزله الله تعالى في القرآن فهم به مقتدون، وأما من رغب عن ملة إبراهيم وسفه نفسه وأتبع نفسه هواها وطغى وتجبر وظن نفسه قد أوتي المال على علم عنده فهم يصعدون إلى الهاوية وهم لا يشعرون.
ومما أنزل الله تعالى في القرآن الكريم آيات عظيمة في باب الصبر وتكلم عنه في حوالي تسعين موضعا من القرآن الكريم. فمن علم أن القرآن الكريم كتاب هدى فسيعمل بالآيات، أما المستكبر فسيقوم باستعمال الآيات في غير موضعها فيضل ويشقى.
- 1 -
عندما يقول الله تعالى لك في القرآن (واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون). فالمقصود هو الصبر على الأذى في طريق الدعوة والجهاد، لا الصبر على المشكلات التي تنشأ بين الناس وبين الصديق وصديقه والزوج وزوجته والرجل وأهله كما يتصور البعض.
نرى مواقع النت اليوم قد امتلأت بأمثال هذه الاستدلالات الفاسدة، يتعرض المرء لخلاف مع بعض أصدقائه أو أقرباءه أو لا يحصل على حقوقه الدنيوية من مديره في العمل أو الحاكم على بلده، فيكثر من كتابة أمثال هذه الآيات ويقول: إن مع العسر يسرا، و(يوما ما ستتحقق أحلامنا فالله قال "ولسوف يعطيك ربك فترضى") ويتحول إلى أديب قرآني وواعظ بليغ يستعمل الآيات التي أنزلها الله تعالى على الأنبياء في أمور من دنياه وخلافات سيعلم بعد زوالها أنها كانت أتفه من أن يلتفت إليها أو يحزن عليها. فإن المؤمن ذا الهمة العالية لا يهمه إلا ميزانه وما يدخله من حسنات أو سيئات، ولا يهتم إلا لما هو أثقل من أنواع الحسنات، وأما السيئات فيجتنبها كلها صغيرها وكبيرها.
ذكر الله تعالى الصبر في مجال الجهاد والدعوة في سبيله، وهذا هو الصبر الذي يتحقق للعابدين وينزل فيه العون من الله تعالى ربنا المعبود العظيم السبوح القدوس، ذو الجلال والإكرام، المتفضل على عباده بالنعم والكرم والحلم والمغفرة والرزق. سبحانه وتعالى. وحتى الابتلاءات التي تقع للمؤمن في دنياه فهي تقع له إما اختبارا لإيمانه بربه أو تكفيرا لذنوبه، فإن التصور الإسلامي يفترض بالمسلم أن تكون كل لحظات حياته وتصرفاته وفكره منصرفة في طريق هذا الدين العظيم وخدمة الإسلام. وهذا هو الإنسان المخاطب بآيات الصبر. أما من كان لدنياه نصيب من الاهتمام فليصبر أو لا يصبر فليس يعنينا أمره عندما نتحدث عن آيات عظيمات كريمات أنزلها ربنا سبحانه وتعالى هدى ورحمة لمن عاش بالإسلام وللإسلام.
- 2 -
قرن الله تعالى بين الصبر وبين العبادة، وبين أن الصبر يحتاج جهدا من المسلم ليتحقق له بعدها عون الله وأجره وثوابه. وبداية الصبر تكون عندما يجاهد المسلم نفسه ويتحكم بها بدلا من أن يتركها تتحكم به. ويستعين على ذلك بالعبادات وعلى رأسها الصلاة والتسبيح. وكلما كان إتقان المسلم للعبادة أكبر تحقق بها الصبر والهدى أكثر، فصبر الخاشعين في صلاتهم ليس كصبر من لا يخشعون. وصبر من يقوم الليل ليس كصبر النائمين، وصبر الذاكرين الله كثيرا ليس كصبر الذاكرين أمور طعامهم ونكاحهم وآرائهم. وفي الجملة فإن العابد يصبر وعديم العبادة لن يصبر مهما تعلم الفنون التي تحقق له الصبر، فإن الإنسان ضعيف عاجز والله قوي قادر ولا حول ولا قوة إلا بالله وحده فلا يغتر أحد بقوته وعلمه ويظن أنه سيصبر دون أن يحقق العبادات التي أمرنا الله بها لنستعين بها على الصبر في طريق جهادنا.
تدبر قول الله تعالى في سورة البقرة (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) وقوله (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين)
وفي سورة غافر (فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار)
وفي سورة طه (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى)
وفي سورة الطور (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم)
وفي سورة يونس (واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين)
وفي سورة هود (واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين)
وغيرها من الآيات، فمن أدام قرائتها وتدبرها وأجبر نفسه على العمل بها أفلح ونجح وفاز ومن قصر في ذلك وأتبع نفسه هواها خاب وخسر وعاش في ضيق وحزن ولم يعرف لنفسه علاجا لأن الخالق سبحانه هو وحده العليم الخبير.
- 3 -
قال تعالى:
«وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ. وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ، الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ، وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ»
يقول سيد قطب رحمه الله في ظلال القرآن الجزء الأول:
"والاستعانة بالصبر تتكرر كثيراً فهو الزاد الذي لا بد منه لمواجهة كل مشقة، وأول المشقات مشقة النزول عن القيادة والرياسة والنفع والكسب احتراماً للحق وإيثاراً له، واعترافاً بالحقيقة وخضوعاً لها.
فما الاستعانة بالصلاة؟
إن الصلاة صلة ولقاء بين العبد والرب. صلة يستمد منها القلب قوة، وتحس فيها الروح صلة وتجد فيها النفس زاداً أنفس من أعراض الحياة الدنيا.. ولقد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا حزنه أمر فزع إلى الصلاة، وهو الوثيق الصلة بربه الموصول الروح بالوحي والإلهام.. وما يزال هذا الينبوع الدافق في متناول كل مؤمن يريد زاداً للطريق، وريّاً في الهجير، ومدداً حين ينقطع المدد، ورصيداً حين ينفد الرصيد..
واليقين بلقاء الله- واستعمال ظن ومشتقاتها في معنى اليقين كثير في القرآن وفي لغة العرب عامة- واليقين بالرجعة إليه وحده في كل الأمور.. هو مناط الصبر والاحتمال وهو مناط التقوى والحساسية. كما أنه مناط الوزن الصحيح للقيم: قيم الدنيا وقيم الآخرة. ومتى استقام الميزان في هذه القيم بدت الدنيا كلها ثمناً قليلاً، وعرضاً هزيلاً وبدت الآخرة على حقيقتها، التي لا يتردد عاقل في اختيارها وإيثارها."
- 4 -
قال تعالى في سورة الأنفال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).
فجعل للصبر أهمية كبرى في تحقيق وحدة الصف التي هي طريق لانتصار الأمة ورفعة الدين، وكفى به توجيها عظيما اختصر علينا ترهات المنظرين وهراء المغردين حول وحدة الصف ووجوب توحيد الجماعات العاملة للدين في وجه تكالب الكفر علينا. فإن وحدة الصف تحتاج إلى صبر
صبر على الإخوة
صبر على فقدان الرياسة والسلطة
صبر على تبني الجماعة لرأي يخالف رأيك
صبر على اختلاف الطبائع والعادات والنفسيات والتصرفات
صبر على المشاكل
صبر على ضبط النفس في لحظات الانتصار والعلو
صبر على كظم الغيظ والسكوت عند الغضب
صبر على مواجهة ما يتهرب الناس من مواجهته
صبر على طول الطريق
صبر على الملل
وصبر على نفاد الصبر!
وصبر على ذكر الله كثيرا، صبر على طاعة الله ورسوله، صبر على لقاء الفئات الكافرة. وبدون الصبر لن تتحقق وحدة الصف، ولا نصر دون وحدة صف.
- 5 -
قال تعالى في سورة النحل (واصبر وما صبرك إلا بالله)
فمن تبرأ من حوله وقوته وعلم أنه ضعيف فقير عاجز، وعرف عظمة الله تعالى وأنه سبحانه وحده له الحول والقوة وأننا لله وأنا إليه راجعون، وأن لا حول ولا قوة إلا بالله سبحانه وتعالى العظيم القدير الخالق البديع القاهر فوق عباده. فهنا يحقق الإنسان الصبر الذي يعجز عنه البشر المتكبرون الذين يحسبون أنفسهم شيئا ذا قيمة ويظنون أن قوتهم وحدها يمكنها أن تحقق لهم الصبر. وهم وإن لم يقولوا ذلك بألسنتهم إلا أن أفعالهم لتؤكد وجود ذلك المعنى في قلوبهم وتأثيره على تصرفاتهم، وباب النوايا باب واسع ودوام مراقبة الإنسان لقلبه ونيته من أهم الأمور التي تشغل بال المسلم في كل وقته. لأنها هي التي تحدد ميلان ميزانه إلى اليمين أو اليسار. وهي التي تحدد إلى أي كفة من الميزان سيذهب عمله ولحظته التي يعيشها الآن. ولا يوجد شئ أشد تقلبا من النية فراقب نيتك دائما وأصلحها يرحمك الله.
- 6 -
أخبرنا الله تعالى في سورة ص أن طواغيت الكفار أوصوا قومهم بالصبر (وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشئ يراد).
فهناك من الكفار من بلغ به الكفر بخالقه سبحانه وتعالى أن أصبح يصبر على كفره.
حكم ذات مرة على سريلانكي بوذي الديانة بالقتل قصاصا في الجزيرة العربية لارتكابه جريمة قتل، فجاؤوا به لينفذوا فيه الحكم فقال: بوذا بوذا. فقال له أحد الموجودين: قل لا إله إلا الله. فقال: لا، بوذا بوذا. وظل يصيح باسم ذلك الصنم الباطل، فجاء أحد أولياء المقتول وقال له ادخل في الإسلام ونعفو عنك وتذهب لبيتك، فقال: لا، بوذا بوذا. فجاء صاحبه وهو من بلده وعلى ديانته فقال له ادخل في دينهم لتنجو بنفسك، فقال: لا، بوذا بوذا!! وظل يصيح باسم الصنم الأصم الذي لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا حتى قطع رأسه على ذلك الكفر، نسأل الله العافية وحسن الخاتمة.
وفي إيران عندما سقط الشاه وتسلق الخميني على الحكم أنشأ جهاز مخابرات أسوأ من سابقه، وكانوا يأتون بالمؤيدين للشاه المخلوع ويعدمهم شنقا في الساحات العامة، فكان أحدهم يجعل آخر كلامه (زندباد شاه) وتعني بالعربية (عاش الملك)!
وهذا جيفارا الملحد الشيوعي، لما قتل صاح (قد تستطيع قتل شخصي لكنك لن تستطيع قتل مبادئي). وكان قد عاش في آخر عمره لفترة طويلة جدا شبه محاصر ومطاردا في غابات وأراض صعبة.
ومقاتلوا (الفيت كونج) في فيتنام أذاقوا الأمريكان الويلات وقدموا التضحيات الفدائية الكثيرة.
والطيارون اليابانيون في الحرب العالمية الثانية قاموا بعمليات انتحارية بضرب السفن الحربية الأمريكية بطائراتهم.
وفرعون خرج بسلاحه وجيشه ملاحقا لموسى ومن معه تاركا قصره وحياته الناعمة إلى ظهور الخيل.
وأبوجهل ومن معه خرجوا بسلاحهم واقفين بوجه نبينا صلى الله عليه وسلم مقاتلين له حقدا على دعوته، اللهم صل وسلم على نبينا محمد واجزه خير ما جزيت نبيا عن أمته.
فإن كان الكفار يصبرون على كفرهم مثل ذلك الصبر، فالأجدر أن يصبر من يؤمن باليوم الآخر والجنة والنار ويعرف ربه سبحانه وتعالى حق المعرفة وعنده فوق ذلك من الآيات والعلم في كتاب الله ما يعلمه أسرار تحقيق الصبر وطريقته فإن لم يصبر على الحق الذي عنده فإن خسارته أعظم الخسائر.
Comments
Post a Comment