‏بيان واستدراك على ما نشره الأخ بخصوص نقد [نواقض الإسلام] وأمثلة على خطأ النقل دون معرفة مذهب المنقول عنه، ومراده - أبو صهيب الحنبلي


بيان واستدراك على ما نشره الأخ بخصوص نقد

[نواقض الإسلام]

✍ أبو صهيب الحنبلي


الحمد لله وحده.

سأحاول إدماج الرد هنا على المقالتين الأخيرتين؛ نظرا لما في العناصر من تشابه وإمكانية إرجاعها إلى بعض.
1- الناقد ملزم بمعرفة مذهب الشيخ مادام تصدر له؛ إذ كيف يحاكم طالبُ علم متنا بغير معرفة بمراده؟!
هذا بالإضافة إلى أن إلزام المتن بدفع التشابه الذي يقع في سائر الأذهان= ضرب من التكلف البغيض؛ إذ ليس له في كلام البشر نصيب، بل ولا في أحسن الكلام وهو كلام ربنا جل علاه. وكذلك فإن محاكمة كتاب ما -فضلا عن متن- بما تتصوره أذهان عامة الناس؛ هو ضرب من الخطأ، ويلزمك أن تقول هذا في كتاب الله الذي رغم أنه (مفصل عربي مبين ... إلخ) فإن المشركين أضعاف المسلمين، والجهلاء من المسلمين أضعاف أهل العلم، وبكتاب الله استدل الخوارج رغم أنه بريء منهم!
2- وكذلك بالنسبة للمتن فعمله تقريب الصور وجمع أكثره، وإلا ما كان للاستثناء ضرورة ولا مكان، وقد سبق أن كل متن (ولم تكن مقالته متنا مستقلا أصالة بل ذكرها ابن سحمان ضمن رسالة له) يعامل بحسب مقصوده وضرورته، فإذا كان المقصود دفع الشرك أجملنا وأطلقنا، وإذا كان المقصود دفع الغلو فصلنا وبينا عوارض الأهلية واعتبارها وضرورتها في التفريق بين الكفر الأصلي والعارض، وهذا يعرفه أدنى قارئ في كتب الشيخ، فتراه بين هذه الحالتين. لكن الأمر يحتاج إلى انصاف وروية لفهم تلك الحقبة الزمنية التي مررنا بمثلها تارة وبفتنة الغلو تارة أخرى، فنحن بين أمرين نحتاج لهذا ولهذا.
3- هل أخطأ الشيخ حينما ضرب بـالسحر مثالا على نواقض الإسلام، بينما أعرض عن الخلاف؟ تعالوا لننظر في سبب الخلاف ابتداء، حتى نعلم ماذا يريد أن يصرف نظر القارئ عنه.
سبب الخلاف: اختلاف الأنظار في ماهية السحر، أي: التفريق بين ما هو كفر منه، وما هو من قبيل الخداع والدجل، وعدم التفريق بين الخلاف الواقع في حكم الساحر، هل يقتل أم لا، وهذا الخلاف له أسباب منها: اختلافهم في ماهية الكفر بسبب الخلل الواقع في تعريف الإيمان (خصوصا عند مرجئة الفقهاء) وكذلك اختلافهم في استتابة الكافر على التفصيل المعروف؛ زد على هذا أن بعض (الذين يدخلون في الخلاف المشهور بالإضافة لمرجئة الفقهاء) ينفون وجود سحر حقيقي، بل يرون السحر مقصور على السحر التخييلي، وهذا قول المعتزلة وجماعة من المتأثرين بهم كإسحاق الاستراباذي، وقد نسبه البعض مذهبا لأبي حنيفة وهذه النسبة الأخيرة تحتاج لبحث لأن كثيرا مما ينسب إليه هو لبعض المتأخرين من أتباعه.
والشاهد: هل السحر الحقيقي الذي هو رقى وتمائم شركية تؤثر في بدن المسحور، ما حكمه؟ هل له حكم إلا الكفر؟
ماذا فعل الشيخ؟ .. قال: الدرر السنية (2/ 361) [السابع: السحر، ومنه الصرف والعطف. فمن فعله أو رضي به، كفر، والدليل قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} .. الآية المذكورة تتكلم عن السحر الحقيقي، والأمثلة التي ذكرها تدل على ذاك السحر الحقيقي الذي هو رقى وتمائم شركية. والصرف هو التفريق بين الزوجين والعطف هو الجمع بينهما، والأول هو مقصود تلك الآية التي ذكرها الشيخ.
إذا الشيخ يريد أن يصرف نظر العامي عن تلك الخلافات التي أكثرها ناتج عن خلاف بدعي في باب الأسماء والأحكام، وخلاف فقهي لا أثر له في الباب وهو : هل يلزم قتل الكافر أم لا؟ لأنه لم يتكلم عن قتل إنما عن ناقض، وهو السحر الذي اشتهر خصوصا في زمنه وهو في زمننا أيضا.

بالنسبة لما استشكله الأخ في مقالته الأخيرة، وهو قول الشيخ: "الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، كفر" الدرر السنية (2/ 361) سأقتصر على بعض التنبيهات طلبا للاختصار.
وسأنقل نص القاضي عياض، ثم محاولة النظر في الفروق بين العبارتين، في صورة عناصر؛ إذ هو الأصل ونقية النقول ترجع له.
يقول القاضي في الشفا "وكل من فارق دين المسلمين أو وقف في تكفير هم أوشك قال القاضي أبو بكر لأن التوقيف والإجماع اتفقا على كفرهم فمن وقف في ذلك فقد كذب النص والتوقيف أو شك فيه والتكذيب أو الشك فيه لا يقع إلا من كافر" (2/ 281)
1- نقل كلام القاضي عياض وما فيه من حكاية الإجماع؛ تدل على أن الشيخ له في ذلك سلف، وهو مطلب هام عند النقل وإلا فهي محض دعوى.
2- يلاحظ أن هناك اتفاق بين النقلين على :
a. تكفير من لم يكفرهم: وهو الذي عبر عنه الشيخ بــ (من لم يكفر المشركين) وعبر عنه القاضي بــ[وقف في تكفيرهم].
b. لفظ [شك] يقول الشيخ: [أو شك في كفرهم] ويقول القاضي: (أو شك).
3- اعترض الأخ على لفظ: [من لم يكفر المشركين] والذي في مقابله في مقالة القاضي: [وكل من فارق المسلمين] . والاعتراض غاية في العجب، وهو مما يدل على صحة ما قلت؛ إذ أكثر مقالات المتصدرين للنقد لهذا الاتجاه= هو نتاج لقاح الضغط النفسي من أثر الغلو رغم أن مقابله أقبح وأفجع! وقد حاولت أن أجمع بين جمله التي يمكنها إعانتي في فهم استشكاله، لذا حاولت أن أفهم هذا من الخلاصة التي ذكرها و

كلمات منثورة في طيات مقاله.
أقول:
a. لا وجه للاستشكال في لفظ [المشركين] وليس هو بمجمل من جهة المعنى، ولا يدخل في الشرك إلا المشرك، والمعنى واضح جلي، حتى العامة يعرفون ما معنى الشرك!
b. يقول في آخر منشوره ذاك: "سيما وأن محمد بن عبد الوهاب يستعملها في وصف عوام الصوفية والقبوريين" اهــ لماذا تغير القصد أخا الإسلام، ألم يكن النقد مقصودا به هذا المتن وليس بقية كتبه؟!
وعلى كل حال، يمكن حل هذا الإشكال الذهني المتكلف؛ إذا عرفنا أن الألفاظ الشرعية لا يمكن إهمالها لمجرد تحريف معناها من أحد مهما كان. ويمكن للإخوة الرجوع لقول الشيخ في العوارض، ومن هم الذين كفرهم حقيقة من الصوفية ومن شابههم، وليطلعوا جيدا على تاريخ ابن غنام الذي استدل به الأخ، وهو بعينه من ذكر ما كانت تفعله النساء اللاتي تأخرن عن الزواج حينما تذهب لنخل يسمى الفحال "يا فحل الفحول أريد زوجا قبل الحول ... " وقد نقله الشيخ ابن سحمان في كشف غياهب الظلام أن يرى بعضا في تلك الرسالة الصغيرة (عشر صفحات فقط) ونقله أيضا الشيخ محمد رشيد رضا في مقال له في مجلة المنار دفاعا عن الشيخ.
c. استشكال العبارة لأجل أنها توهم بوجود غير المقطوع بكفرهم؛ هو محض تنطع؛ إذ كيف أن تحاكم الإطلاق للظنون؟ في أي مشتقات الكلمة تعطيك معنى أنها قد تشمل غير المقطوع بهم؟ ثم إن لفظة القاضي يرحمه الله [وكل من فارق المسلمين] هي أحق بالتهمة على اعتبار محاكمة الشيخ على لفظه لا على مذهبه ومجموع أقواله.
d. بل لو اعتمدنا نقلك لكان لنا أن نقول: إن لفظ الشيخ [المشركين] أضبط، من جهة أنه أعم، بينما لفظ القاضي يمنع بعض صوره؛ فقوله: [كل من فارق المسلمين] أي المرتدين كما قال الشمني في حاشيته، وهو واضح؛ إذ كيف يتجاوز القاضي الكفار أصالة (الوثنيون – الكتابيون) ويتكلم عن المرتدين فقط رغم أن كفرهم عارض؟ لكن القاضي قال "وقائل هذا كله كافر بالإجماع على كفر من لم يكفر أحدا من النصارى واليهود، وكل من فارق دين المسلمين .." فالقاضي سوى بين الجميع.
4- وقوله: " كما أنه ذكرها بما يوهم أنها علة مستقلة للتكفير وليست مجرد فرع وصورة من صور كفر التكذيب" اهــ
أذكِّر أخي الكريم بأننا اتفقنا على اعتبار مذهب الشيخ أنه اقتصر على ما عليه الإجماع، وبهذا لا ملامة بصورة من صور الكفر ما لم تكن هذه الصورة مستثناة وليست هذه كذلك، كما يمكنك أن تقول مثل هذا للقاضي عياض في النقل الذي ارتضيته قاعدة!

على الهامش:
في هذا الجزء من الجواب والذي هو ختامه؛ سأشير لبعض ما طلبه أخي –بحسن نية أو بدونها- وما منعني إلا كراهة الاستعراض في المقالات، فأنا أكره أن أحدث إرهابا فكريا فأذهب عن أصل المقال، وتذهب عني النية.
وقبل ذلك أود أن أنبه على نقل ذكره الأخ الكريم، وهو:
روي أن امرأة في زمن محمد بن الحسن قيل لها: إن الله يعذب اليهود والنصارى يوم القيامة قالت: لا يفعل الله بهم ذلك فإنهم عباده فسئل محمد بن الحسن عن ذلك فقال ما كفرت فإنها جاهلة، فعلموها حتى علمت"
وقد بحثت عنه ووجدته في حاشية الحموي على الأشباه والنظائر(3/ 304)
فهذا النقل في قضية إنكار [تعذيب لا تكفير] اليهود والنصارى، ويبدو أن أخي أراد أن يشير إلى اعتبار الجهل عارضا من عوارض الأهلية، وإذا افترضنا صحة الرواية عن الشيباني، يمكن أن ننتبه لما يلي:
1- التفريق بين الكفر الظاهر والخفي، وحد الخفي هو جهل المثل، يعني عامة من يشبهها مكانا وزمانا. ونقل الاتفاق عليه، ابن قدامة والسيوطي في الأشباه والنظائر، بل في المتن (الأشباه لابن نجيم) وفي الحاشية (للحموي) تفريق بين المعلوم ضرورة وغيره، مع اختلافنا في ماهية الإيمان.
2- المستوى الثقافي الديني العام في العصور المتقدمة؛ ليس على درجة واحدة، بل بعض المسائل كانت عندهم مثار فتنة عظيمة، هي عند عامة المعاصرين من الملتزمين من البديهيات، ولهذا اعتبر المحققون في الأهلية اعتبار الزمان والمكان وأن الفتنة ليست كغيرها.
3- هناك فارق لطيف وهو أن "تعذيب" اليهود والنصارى، قد يخفى على هذه المرأة لعدة أسباب، منها: انتشار مذهب الجهمية من أن الإيمان هو المعرفة وأن الكتابي الذي يعرف الله بقلبه لا يدخل النار وإن لم يظهر الإسلام مع القدرة، وقول بعضهم أن النار تفنى يعني لا خلود في النار للكفار كما المسلمين –ولاتزال مسألة فناء النار فتنة للبعض حتى نسبوها لشيخ الإسلام زورا- وربما اختلط عليها الأمر لاختلاف العلماء في أطفال المشركين، وما روي في اختبار أهل الأعذار يوم القيامة وفي نص في السنن مختلف فيه، وهذه المسائل كانت مثارة حينها، وكل هذا تكلفا في محاولة استقراء وجهة نظر أبي الحسن الشيباني. وقد قال تعالى: {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها} وهي من قصار السور وفي متناول العامة.
4- وللمناسبة: النقل الذي ذكرته عن القاضي كان بسبب قول الجاحظ (من تنسب له الجاحظية من المعتزلة) وغيره، وهو ما حاصله إعذار من طلب الحق مطلقا وإن كان من اليهود والنصارى، وسيأتي مثالا على إفرازات ال

إرجاءِ وأثرها.

وبالنسبة لأثر الإرجاء في التكفير، فهو يخالف الأثر إما بترك تكفير المستحقين، أو غلو في التكفير أو تكفير مع فساد علة التكفير.
وأما الغلو؛ فهذا له سببان:
الأول: لعامل الهوى وتدني الأخلاق، وهذا غالبا ما يجري بسبب مشاحنات أو ما شابه، وليس لنا أن نحاكم طائفة لتدني أخلاق أفراد فيها ما لم تقرها قواعدهم وإلا لحاكمنا الإسلام بسبب أخطائنا، ومن أمثلته: ما حدث في تكفير شيخ الإسلام من قبل بعض الأشاعرة (ولا يزال بعضهم يختلف في توبته، وبعضهم يرى أنه عاد لكفره بعد عام 707هــ) بل قرأت مبحثا قديما فيه تكفير عبد الله بن أحمد بسبب كتابه السنة، وعرضوا بتكفير ابن خزيمة.
الثاني: ما يكون لازما ضروريا للقول، وقد يحدث أن تطور الفرقة فتخلق قاعدة ليس عليها الأولون منهم، فهنا تنسب القاعدة للطائفة المتأخرة، وتعطى كل فرقة ما تستحق بحسب ما هي عليه.

فمرجئة (الفقهاء) وهم أقربهم إلينا ترى أن الإيمان = الإقرار اللفظي والتصديق.
وهناك أخرى تلك التي اقتحمت كتب الأحناف وغيرهم ترى الإيمان = التصديق فقط، والإقرار فقط دليلا عليه.
ولأن أكثر الأولين (مرجئة الفقهاء) يصعب أن تخلص أقوالهم من أقوال المرجئة، لتسلطهم على الكتب، وأن ما ينقل إلينا عن الإمام أنه لا يلتزم آثاره، رغم أن لوازم القول غاية في السوء أيضا، والعبرة بالقول وتطبيقاته وشيخ الإسلام ذكر أنهم لا يلتزمون بآثار القول.
وقد ذكرت مرتبة الخلاف بين مرجئة الفقهاء وأهل السنة هنا لمن أراد: https://justpaste.it/nw2k

فإذا اعتبرنا شيئا من قول أو فعل ركن فتركه بالضرورة = كفرا، ومتى أخرجناه عن الركنية = فإن تركه لا يكون كفرا بحال إلا استحلالا.
وهنا مرجئة الفقهاء يقولون: الإيمان إقرار وتصديق يعني إقرارا لفظيا، وتصديق يعني تصديق القلب (بماذا؟ هذه إحدى إشكالاته) وهذا اللفظ يعني أن العمل تركه بالكلية ليس كفرا. لكن قيل إنهم لا يلتزمونه.
وهنا فارق بين العمل الذي هو [مجموع أفراد الواجبات] والعمل المفرد المعين [كالصيام الفرض والزكاة المفروضة] فإن هذه بعينها محل خلاف ونظر.
لكن الأخطر والذي نرى أثره، بغض النظر عن تصنيف صاحبه فبعضهم ينقل تقليدا مع إمامته في علوم أخرى.
وهؤلاء عندهم الأوامر عندهم تركها ليس كفرا مطلقا، ولا يصح لهم اختيارها، ولذلك لن تجد واحدا منهم يقول بكفر تارك شيء من الأوامر ولا يجوز لهم فعل ذلك بناء على هذا الأصل، بخلاف أهل السنة فإن فيهم من يرى كفر تارك الصلاة ومنهم من لا يرى ذلك. [وإن كان الصحيح أن لهذا صلة من جهة أن الصلاة هي الفرض المعين وهو الركن الخاص بالجوارح كما قال ابن تيمية في شرحه على العمدة] فترى الشافعي لا يقول بكفر ترك الصلاة [ولم يصل إلينا قوله بل هو تخريجا على أقرب الأقوال] ورغم ذلك هو الذي نقل إجماع أهل السنة على أن الإيمان قول وعمل ونية لا تجزئ واحدة عن أختها [اللالكائي نقله عنه]
بل لن تجد أحدا يكفر بفعل أصلا، لا بترك ركن ولا بفعل كفر، فمن سجد لصنم عندهم كافر لكن لماذا؟
لأنه لا يخرج إلا من كافر، وليس لأنه كفر بهذا الفعل!
ما الفرق؟
الفرق أن أهل السنة يرون أن الكفر يكون بالقول والعمل والفعل والترك [كترك الوجبات كلها] لأن الإيمان عندهم قول وعمل، والقول يشمل [قول القلب واللسان] والعمل يشمل [عمل القلب والجوارح] وإن اختلفت العبارات، ولأجل هذا فإن العبارة الصحيحة للكفر هو [ضد الإيمان] ويمكن بأخرى، لكن المقصد اجتناب تعريف الكفر بلفظ [الجحود] فهو خطأ لغة باطل شرعا، وقد ذكر الشيخ له ما يقرب من أربعين وجها في [الدرء]
لكن المرجئة يقولون الإيمان = التصديق. [رغم أن التصديق لفظ مركب حقيقة] وإقرار [أي إقرارا لفظيا بالشهادتين] فلو قالوا من فعل كذا فهو كافر فهذا يقتضي أنهم يكفرون بالعمل ويؤمنون أن العمل ذاته كفر.
فكل من رأى الإيمان هو التصديق؛ يرى الكفر هو التكذيب، ومن رأى الإيمان هو المعرفة؛ رأى الكفر = الجهل.
وبالتالي لا يمكن التكفير بشيء من الأفعال، لأجل هذا صارت كل الأفعال التي نص عليها الكتاب إما تحمل على الكفر الأصغر وإما يتأولونها على أنها اقتضت العادة ألا تخرج إلا من كافر!
فيتأولون آيات الحكم بغير ما أنزل الله [بالكلية ومعاصروهم يتأولون حتى للمستبدلين!] ويحملون [سب الله] على أنه دليل على جحود القلب!
ولأجل هذا يقول ابن حزم في المحلى بالآثار: "وأما سب الله تعالى - فما على ظهر الأرض مسلم يخالف في أنه كفر مجرد، إلا أن الجهمية، والأشعرية - وهما طائفتان لا يعتد بهما - يصرحون بأن سب الله تعالى، وإعلان الكفر، ليس كفرا، قال بعضهم: ولكنه دليل على أنه يعتقد الكفر، لا أنه كافر بيقين بسبه الله تعالى - وأصلهم في ((((هذا أصل سوء خارج عن إجماع أهل الإسلام - وهو أنهم يقولون: الإيمان هو التصديق بالقلب فقط -))) وإن أعلن بالكفر - وعبادة الأوثان بغير تقية ولا حكاية، لكن مختارا في ذلك الإسلام" اهــ (12/ 435)
والشاهد في قوله: [كفر مجرد] وقوله [هذا أصل سوء] وهو ما ذكرته أعلاه.
وقد نقل ابن حزم في الفصول أيضا ق

ول الأشاعرة في السجود لغير الله، وأنه لا يكفرونه إلا لأنه لا يخرج إلا من كافر. وتعرض شيخ الإسلام لهذه المسألة غير مرة، أقربها في الإيمان الكبير.
وأنبه على أن التكفير بــ [لا يخرج إلا من كافر] ليس مخالفا لذاته بل هو صحيح، وإنما الخطأ في إطلاقه حال الكفر المجرد، ويشهد لهذا حكاية الإجماع على أن التشبه بالكفار فيما يدينون به كفر [مما يختصون به في شعائرهم]
ولأجل هذا فإن النقل الذي ذكره القاضي عياض، حسن من جهة الإجماع، غلط من جهة التعليل، وأبو بكر المذكور = هو أحد أئمة الأشاعرة، وهو أبو بكر الباقلاني، ولأجل هذا علل تكفيره للمكذبين بقوله: [لا يقع إلا من كافر ..] وهذا هو القدر الذي يقع منهم التكفير بغير علته الأصلية.

ولذات السبب وقع الغلو، فتراهم يكفرون بغير مكفر، كما يكفرون بإثبات بعض الصفات الذاتية، ويكفرون بما لا يقع إلا في أذهانهم فضلا عن أن يكون لازما، كما وقع لهم من تكفير من قال بالعلو لأنه يلزم منه أن يحيطه مكان!
وليس هذا وحسب، بل وقع الغلو في ترك الإعذار أحيانا، ثم جاءت طائفة فوقعوا في التناقض فاستدلوا بأفعال لا تليق بأصولهم ليخرجوا من مذمة ترك الإعذار وعدم اعتبار الأهلية، كما حدث في كثير من المسائل.
ووجه ذلك أن هؤلاء لما اعتقدوا أن [الإيمان = التصديق، والكفر= الجحود] فهذا يعني أن كل جحود لا يصح أن يكون معه إيمان صحيح البتة؛ لأنه شيء واحد وما كان شيئا واحدا فلا يجتمع معه شيء، فهنا ينتفي الإيمان بالكلية، وهذا لازم ضروري، وبهذا تفهم مقصد العلماء من أن الوعيدية والمرجئة اتفقوا على أن الإيمان شيء واحد لا يتجزأ.
بينما نحن نقول إن الإيمان مركب، وقد تجتمع السيئات والحسنات، والكفر والإيمان. [كما قال ابن تيمية]
ومن الأمثلة:
تجد ابن حجر الهيتمي الأشعري تجاوز الله عنه –وتوضيحا للعامة؛ فإن الهيتمي ليس الحافظ ابن حجر العسقلاني- ينقل مثلا كفر القائلين بالجهة والجسمية [من الأشاعرة] ثم يتهم شيخ الإسلام ابن تيمية بالتجسيم والقول بالجهة، ويسبه مسبة عظيمة [الرجل منا يتورع عن سبهم بها وهم أحق بها] لأنه يرى أن كل إثبات ليد لله تعالى أو وجه وإن نفى المماثلة = تشبيه به. [الفتاوى الحديثية للهيتمي]
وهذا قمة في الغلو، وذلك أن الكفر هو تشبيه الله بخلقه، فإذا افترضنا أن شيخ الإسلام [معاذ الله] مبتدع، وقال إننا نقول إن الله له صفات ذاتية وفعلية وهذه الصفات تختلف تماما عن صفات المخلوقين؛ فهذا لا يقال فيه كفر البتة، ولأجل هذا تجد المنصفين منهم يرونه قولا ضعيفا أو يلزمه التشبيه.
وكنت ناظرت إمام مسجد أشعري وقلت له هذا الكلام، فقال ليس بدعة! رغم أن هذا يخالف مذهبهم وهو يعلم لكن الأمر كان محرجا أمام المصلين.
ومن الأمثلة قول الأحناف، ينقله ابن حجر الهيتمي في الإعلام بقواطع الإسلام (ص: 239)
يقول: ومنها: قال بعض الحنفية: اعلم أن من تلفظ بلفظ الكفر يكفر، وإن لم يعتقد أنه لفظ الكفر ولا يعذر بالجهل، وكذا كل من ضحك عليه أو استحسنه أو رضي به يكفر ..] ثم ذكر ابن حجر أن مذهب الشافعية العذر إذا كان حديث عهد أو نشأ في بادية بعيدة، وهذا يعني أنه كفر ظاهر عنده، رغم أن لفظ الكفر ليس كله سواء.
كل هذا لأن هذا مناقض للأصل الوحيد الذي هو التصديق، والإقرار دال عليه، أو هو التصديق والإقرار على أحسن التقريرات عندهم، وقد رجح ابن عابدين الحفيد في حاشيته القول الأول.
ومثال آخر يظهر أثر هذه الأصول على الأحكام:
يقول ابن حجر في الإعلام: (ص: 71)
فمن ذلك العزم على الكفر في زمن بعيد أو قريب، أو تعليقه باللسان أو القلب على شيء ولو محالاً عقلياً فيما يظهر، فيكون ذلك كفراً في الحال، كما نقله الشيخان عن التتمة، وجزم به البغوي وغيره كالحليمي وصححه الروياني ... " ستجد في هذه المسألة تنظيرا عجيبا مبنيا على أن الإيمان [الجهل أو التصديق] سيتكلم عن استدامة العزم وعدم استدامته بحيث يبقى كخاطرة، بل أعجب منه قوله بعد ذلك:
ونقل الإمام عن الأصوليين أن من نطق بكلمة الردة، وزعم أنه أضمر توريةً كفر ظاهراً وباطناً، وأقرهم على ذلك، فتأمله ينفعك في كثير من المسائل، وكأن معنى قصده التورية أنه اعتقد مدلول ذلك اللفظ، وقصد أن يورّي على السامع، وإلا فالحكم بالكفر باطناً فيه نظر ..] يرى أن كفر الباطن لمجرد قول الكفر مع قصد التورية فيه نظر، والقائل في أغلب ظني هو الجويني، وأنا بعيد العهد عن الموضع هل كان في البرهان أم غيره، وكلام ابن حجر هنا من جهة الاعتراض الخفي يوافق أصله فإن التورية التي تنافي الجحود [وإن خالفت عملا قلبيا آخر] ليس من جنس كفر الباطن الذي يكون عندهم بالجهل أو التكذيب.

فالشاهد في هذا كله أن كثيرا من العبارات ينقلها نفاة العذر مطلقا؛ يظنون أنها لصالحهم [وهي ضدهم] وكذلك يفعل من يريد دفع الغلو، فيأخذ من هذه الأقوال مع براءتهم منها، والتي قد عجت بها مدارس الفقه حتى الحنابلة؛ إذ لم تسلم منها مدرسة إلا ما شاء الله.
ولابد من معرفة مذهب المنقول عنه ومراده قبل النقل، وهذا ينفعك بإذن الله عند الكلام عن

الغلو وغيره، وفقك الله لما يحبه ويرضاه.
ويبقى هنا ككفارة لاغتياب هؤلاء الأفاضل تجاوز الله عنهم، أن أذكر أن الخطأ وإن وقع منهم حتى شابهوا طوائف غاية في الخسة، فإنهم ليسوا منهم، لانشغالهم وعلو كعب المتكلمة في عصورهم، لكن أهل الحديث كالبيهقي والقاضي عياض وغيرهما من أقلهم تأثرا، وكذا النووي ثم الحافظ ابن حجر العسقلاني.
وسأدع لك كلام ابن تيمية لعله ينتفع به القارئ:
يقول في رده على الرازي في درء تعارض العقل والنقل (7/ 32)
وأهل العلم بالحديث أخص الناس بمعرفة ما جاء به الرسول.
ومعرفة أقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فإليهم المرجع في هذا الباب، لا إلى من هو أجنبي عن معرفته، ليس له معرفة بذلك، ولولا أنه قلد في الفقه لبعض الأئمة، لكان في الشرع مثل آحاد الجهال من العامة.
فإن قيل: قلت إن أكثر أئمة النفاة من الجهمية والمعتزلة كانوا قليلي المعرفة بما جاء عن الرسول، وأقوال السلف في تفسير القرآن وأصول الدين، وما بلغوه عن الرسول، ففي النفاة كثير ممن له معرفة بذلك.
قيل: هؤلاء أنواع: نوع ليس لهم خبرة بالعقليات، بل هم يأخذون ما قاله النفاة عن الحكم والدليل، ويعتقدونها براهين قطعية، وليس لهم قوة على الاستقلال بها، بل هم في الحقيقة مقلدون فيها، وقد اعتقد أقوال السلف أولئك، فجميع ما يسمعونه من القرآن والحديث وأقوال السلف لا يحملونه على ما يخالف ذلك، بل إما أن يظنوه موافقاً لهم، وإما أن يعرضوا عنه مفوضين لمعناه.
وهذه حال مثل أبي حاتم البستي، وأبي سعد السمان المعتزلي، ومثل أبي ذر الهروي، وأبي بكر البيهقي، والقاضي عياض، وأبي الفرج بن الجوزي، وأبي الحسن علي ابن المفضل المقدسي، وأمثالهم.
والثاني: من يسلك في العقليات مسلك الاجتهاد ويغلط فيها، كما غلط غيره، فيشارك الجهمية في بعض أصولهم الفاسدة، مع أنه لا يكون له من الخبرة بكلام السلف والأئمة من هذا الباب ما كان لأئمة السنة، وإن كان يعرف متون الصحيحين وغيرهما.
وهذه حال أبي محمد بن حزم، وأبي الوليد الباجي، والقاضي أبي بكر بن العربي، وأمثالهم.
ومن هذا النوع بشر المريسي ومحمد بن شجاع الثلجي، وأمثالهما.
ونوع ثالث سمعوا الأحاديث، والآثار، وعظموا مذهب السلف.
وشاركوا المتكلمين الجهمية في بعض أصولهم الباقية، ولم يكن لهم من الخبرة بالقرآن والحديث والآثار، ما لأئمة السنة والحديث، لا من جهة المعرفة والتمييز بين صحيحها وضعيفها، ولا من جهة الفهم لمعانيها.
وقد ظنوا صحة بعض الأصول العقلية للنفاة الجهمية، ورأوا ما بينهما من التعارض.
وهذا حال أبي بكر بن فورك، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل وأمثالهم. .... ] وينظر لآخره ففيه فائدة لمعرفة أحوالهم بإنصاف.
ـــــــــــــ

هذا وأعتذر للإطالة فلم أجد وقتا للاختصار ولا المراجعة بالضرورة.
وقد اقتربت الصلاة.

والحمد لله في الأولى والآخرة.
أبو صهيب

Comments

Popular posts from this blog

بين دايتون وغروزني اينفتح الشام / كتبها : على بصرة

غارة #سرمدا: هذه هي معركة إدلب المنتظرة/ على بصيرة

دروس لبنانية في الحرب السورية / على بصيرة